أهمية التوثيق القانوني في حماية الحقوق وتجنب النزاعات

المؤلف: فراس طرابلسي09.05.2025
أهمية التوثيق القانوني في حماية الحقوق وتجنب النزاعات

في خضمّ هذا الواقع الذي تتشابك فيه المعاملات وتشملها شبكة واسعة من التشريعات والأنظمة التي تنظم العلاقات بين الأفراد والشركات على حدٍ سواء، أصبح التوثيق اليوم أيسر وأكثر سلاسة من أي وقت مضى. ومع ذلك، لا يزال يلاحظ ضياع بعض الحقوق، والسبب في ذلك يعود إلى إهمال أصحابها وعدم منحهم هذه الحقوق ما تستحقه من توثيق قانوني سليم يجسد حقيقة العلاقة التعاقدية ويحميها. ومن المثير للدهشة حقاً أن معظم هذه النزاعات والخلافات لا تنشأ في الأصل بسبب نوايا خبيثة أو أهداف سيئة، بل غالباً ما تبدأ بنوايا حسنة وعلاقات يسودها الودّ والصفاء، ولكنها سرعان ما تتحول إلى خصومات باهظة التكاليف، وذلك لمجرد أن أحد الطرفين قد استهان بالأمر وظنّ قائلاً: "نحن على معرفة وثيقة ببعضنا البعض، لا داعي لهذه الإجراءات المعقدة."

وفي سياق الممارسة القانونية، كثيراً ما يصادف المحامون والمستشارون هذا السيناريو المؤسف: طرف متضرر يسعى إلى استعادة حقوقه، وعقد موجود بالفعل، وتوقيع واضح وجليّ، ولكن مع ذلك، الحقوق تظلّ مهددة بالضياع. لماذا؟ لأن مجرد وجود التوقيع وحده لا يشكل ضمانة كافية لحماية الحقوق. فالعقد لا يُقاس بمجرد وجود الإمضاء عليه، بل بقوته وقدرته كأداة إثبات متكاملة وشاملة. هل حدد العقد بوضوح وبشكل قاطع جميع النقاط التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين؟ هل يبيّن الالتزامات المتبادلة التي تقع على عاتق كل طرف؟ وهل يمكن تنفيذه على أرض الواقع دون الحاجة إلى الدخول في تفسيرات وتأويلات؟ والأهم من ذلك، هل يحمل العقد تاريخاً محدداً، وسنداً قانونياً معتمداً، ووسيلة إسناد خارجية موثوقة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن العلاقة التعاقدية كانت جدّية ونظامية منذ البداية؟

والحقيقة المؤلمة أن العديد من العقود المتداولة، سواء بين الأفراد أو المؤسسات الصغيرة، تقع في فخ "الاعتماد النفسي" على الشكل الظاهري للعقد بدلاً من التركيز على مضمونه وجوهره. نرى الكثير من الناس يوقّعون على عقود شراكة، أو عقود استشارات، أو عقود تقديم خدمات متنوعة، بل وحتى عقود اقتراض، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التدقيق في البنود والفقرات، أو تحديد طريقة الدفع بشكل واضح، أو النصّ صراحة على الآثار المترتبة على الإخلال بالاتفاق. وعندما ينشأ النزاع، يتحول هذا العقد إلى مجرد نصوص مبهمة وغير واضحة، تُستخدم في نهاية المطاف ضد من وقّع عليها، بدلاً من أن تكون أداة لحمايته والدفاع عن حقوقه.

صحيح أن الطرف الآخر قد يكون حسن النية في بداية العلاقة، ولكن في لحظة خلاف أو عندما تتعارض المصالح، قد يغيّر موقفه بشكل مفاجئ، وهنا يصبح إثبات ما تم الاتفاق عليه هو الفيصل الحقيقي لحسم النزاع. وكم من عقود حملت توقيعاً معتمداً، ولكنها لم تصمد أمام القضاء لأنها لم تُوثّق بالطريقة الصحيحة التي تجعلها قابلة للدفاع أمام القاضي أو أمام جهة التنفيذ المختصة.

من واقع خبرتنا في التعامل مع الملفات القانونية:

إن هذه الإشكالات ليست مجرد افتراضات نظرية أو حالات نادرة الحدوث، بل هي من بين أكثر القضايا التي تُعرض بشكل يومي على الممارسين القانونيين. فالخلاف غالباً لا يدور حول أصل الحق نفسه، بل حول الأدلة التي تثبته، أو الأنظمة التي تنظمه، أو الالتزامات التي تترتب عليه. بعض النزاعات تدور حول شرط جزائي لم يُكتب في العقد، أو حول مهلة زمنية لم تُحدد بدقة، أو حول تحويل بنكي لم يُربط بالعقد صراحة. وفي جميع هذه الحالات، يضيع الحق ليس بسبب ضعفه في حد ذاته، بل بسبب ضعف الأدلة والوثائق التي تدعمه وتسنده.

ولذلك، فإن الوعي القانوني الحقيقي يبدأ قبل صياغة العقد وكتابته، وليس بعد نشوب النزاع. وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون كل متعاقد محامياً أو خبيراً قانونياً، ولكن يجب عليه على الأقل أن يدرك جيداً ما يجب توثيقه وما لا يجب تركه عرضة للظنون والتخمينات.

وهنا، يمكننا أن نلخص أهم النقاط التي يجب توثيقها في العقود لحماية الحقوق:

• تحديد مبلغ التعاقد بشكل واضح وتفصيلي، وبيان طريقة السداد (دفعة مقدمة – تحويل بنكي – سداد مؤجل – على دفعات منتظمة).

• تحديد المدة الزمنية المحددة للتنفيذ أو الالتزام، مع تحديد تاريخ واضح لبداية كل التزام ونهايته.

• النص على غرامات التأخير: تحديد مبلغ جزائي يومي محدد في حال تجاوز المدة المتفق عليها دون الوفاء بالالتزام، على غرار الغرامات المنصوص عليها في عقود المقاولات.

• تحديد الجزاءات النظامية التي تترتب على الإخلال بأي بند من بنود العقد، وهل يترتب على ذلك فسخ العقد أو دفع تعويض مباشر.

• تحديد الجهة المختصة في حال نشوب نزاع بين الطرفين (اللجوء إلى القضاء – التحكيم المؤسسي أو الحر – الصلح أو التوفيق).

• تحديد وسيلة التواصل الرسمية المعتمدة بين الطرفين (البريد الإلكتروني – رقم هاتف موثق – المراسلات الرسمية).

• تسجيل رقم الهوية الوطنية أو السجل التجاري للطرف الآخر، لتحديد هويته النظامية بدقة ووضوح.

• تضمين العقد إقراراً متبادلاً بين الطرفين يفيد بأن كل طرف قد قرأ العقد كاملاً وفهمه جيداً ووافق عليه دون أي إكراه أو غموض.

كل بند من البنود السابقة ليس مجرد "تفصيل فني" ثانوي، بل هو خط دفاع أساسي لحماية حقوقك في حال نشوب نزاع. فالشخص الذي لا يدرك أهمية هذه التفاصيل إلا بعد وقوع الخلاف، يكون كمن يبني منزلاً فخماً ثم يبدأ في البحث عن الأساسات المتينة بعد أن تتصدع الجدران وتهتز الأركان.

وفي ظل التسهيلات الرقمية الهائلة التي أصبحت متاحة في المملكة العربية السعودية، مثل خدمات "توثيق" و"ناجز" والمنصات البنكية المعترف بها، لم يعد التوثيق مجرد ترفيه أو إجراء معقد، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من المعاملة السليمة والصحيحة. فالتوقيع على عقد لا يعفي الشخص من المسؤولية عن فحصه والتدقيق فيه، والعلاقة الطيبة لا تعني أن التوثيق يسيء إلى الثقة المتبادلة. بل على العكس تماماً: التوثيق اليوم هو الوجه الحضاري للثقة.

وهل نبدأ الآن في توثيق حقوقنا؟

لست بحاجة إلى أن تكون خبيراً قانونياً أو محامياً لكي تحصّن نفسك وتحمي حقوقك. يكفي أن تسأل نفسك ببساطة: "هل كل ما بيني وبين الطرف الآخر مكتوب وموثق بشكل واضح؟ وهل يمكن إثباته أمام جهة محايدة وموثوقة؟". إذا كانت الإجابة "لا"، فابدأ الآن دون تردد. لا تنتظر حتى ينشب الخلاف لكي تراجع الورقة، ولا تستبدل الثقة بالإهمال والتساهل.

إذاً، السؤال الأهم الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: هل العقد الذي بين أيدينا كافٍ لتوفير الحماية الكاملة لحقوقنا؟ نعم، إنه كافٍ ووافٍ، ولكن فقط إذا كُتب بعناية واهتمام، ووُقع عن إدراك وفهم، وحمل من التفاصيل الدقيقة ما يكفي لكي يقف وحده بثبات في مواجهة أي طرف.. في اللحظة التي لا يقف فيها أحد بجانبك.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة